طباعة    ايميل

تصحيف الثقافة

ليس من المستغرب أن تزحف الآلة الإعلامية بمنتهى التوحش لتستحوذ على كل ما هو ثقافي، بالنظر إلى أن الثقافة أصبحت صناعة إعلامية في المقام الأول، خصوصاً ذلك النوع من الإعلام التافه الذي يعتبره برون لوساتو في كتابه " تحدي المعلوماتية " مسؤولاً عن إحداث تغييرات في السلوك، لأنه يشكل حافزاً لشكل أو لآخر من التصرف، في حين أن الإعلام الفني والثقافي بصورة أشمل يمكن ألا يحدث أي تعديل في المقتعدات والممارسات كما هو الحال بالنسبة للآداب والفنون، فالموسيقى الرديئة بتصور مارسيل بروست، تمثل الحياة أكثر مما تمثلها سمفونية لبتهوفن.

إذاً، هناك علاقة سلبية بين الصحافة والفكر، كما حللها بيير بورديو من حيث كون جميع مجالات الانتاج الثقافي تخضع حالياً للضرورة البنيوية للمجال الصحفي، وتتبدى بشكل واضح في الهيمنة الواسعة التي تمارسها الهجمة الإعلامية على كافة مظاهر الحياة والمنشط الثقافية، وتحديداً من خلال منطق السوق على مجالات الانتاج الثقافي، وتلك إشكالية ليست وليدة اليوم، بل هي واحدة من العناوين القديمة للخطاب الفلسفي، حيث التناقض الذي جادله أفلاطون بين الفيلسوف الذي يمتلك وقته ويتحكم فيه، وبين العوام أو الأفراد الذين يتواجدون في الساحات العامة أولئك الذين يخضعون لضغط الضرورة العاجلة، إذ لا يمكن - بتصوره - التفكير الجاد العميق والانتاج أيضاً تحت ضغط الطوارئ.

للخطاب الاعلامي سطوته دون شك، وهو خطاب على درجة من الجاذبية والهيمنة، خصوصاً في هذه اللحظة التي تعزز فيها بآليات ومخترعات على درجة من العصرية، ولكن لا يمكن التسليم بموت الظاهرة الثقافية أو حتمية تصحيفها، كنتيجة أو كاستجابة طوعية لهذا السبب، فإذا كانت الصحافة تنهض على اليومي والخبري والعاجل، فإن الثقافة تمتلك من العمق ما يهبها القدرة على الصمود والفاعلية والتأثير على المدى البعيد، إذ تقوم على التاريخي، وعلى الوعي الكلي للكائن البشري وليس اللحظي أو الجزئي، وهو ما يعني وجود إختلال في مكان آخر، ربما في أصل البنية الثقافية ومقاصدها الاستراتيجية، أو حتى في كفاءة الذوات المتصدية للفعل الثقافي، حيث الإنسياق إلى السهولة يؤدي إلى الكارثة بالتأكيد.

ويبدو أن هذه النتيجة المحزنة التي تبدت على درجة من الوضوح مؤخراً، قد تأتت في الأصل من خلال إعتماد الصحافة على لغة تقوم على التسطيح المبالغ فيه، واختزال المعرفة بشكل مخل في مهمة الإخبار، بحجة تبسيط المعارف وإيصالها كأفكار سهلة الى القارئ العادي، في رسالة إعلامية لا تحتوي إلا على العناوين السريعة، واستبدال أولئك الذين كانوا يمارسون مهنة أو رسالة الصحافة كأدباء ومفكرين بفصيل من اشباه المثقفين، حيث كان الأدب يرفد الصحافة ويسلّفها، وهو ما يعني أهمية ذلك الرعيل من الكتاب فالصحافة لا يرتقي مستواها الأدائي والتعبيري إلا بوجود هذا الفصيل من الكتاب الذين يتميزون بصفات إبداعية وأدبية، على اعتبار أن الذوات والثقافات العليا هي التي تنتج الأشياء الجميلة، كما يؤكد ذلك ت. س. اليوت من منطلق طبقي.

ولكن يبدو أن المواضعات والشروط الإبداعية قد تغيرت، بعد أن أقرت تيارات ما بعد الحداثة الثقافة الشعبية وصولاً إلى حق التعبير عن السوقي، وعليه صارت الأولوية في الثقافة الجديدة التي تتقدمها الصحافة، للنماذج الموضوعية، حيث تراجعت الوظيفة المعرفية والجمالية، وتزعزعت مقاصد الثقافة كبنية فوقية في إبراز طموحاتها للأصالة والجدية، بمعنى أن مسارها قد تم حرفه أو تصحيحه من منظور صحافي، ومن خلال مثقف عضوي، يتكئ على تنظيرات غرامشي من حيث التلازم البنيوي بين القضايا مع الأدوات، ولكن من منطلق استخدامي، بحيث لا تتحقق الأفكار الإبداعية وفق المفهوم الوظيفي للثقافة، بقدر ما تتجلى كحاجات ثقافية يومية.

في ظل طقس معولم كهذا، تستلحق فيه الثقافة بالآلة الإعلامية، يستحيل إنماء ثقافة قادرة على إشباع حاجات الفرد الروحية والمادية، خصوصاً حين يتعلق الأمر بمجتمعات تجد في الحالة الإعلامية منبراً للتخاطب وتبادل المعارف، فقد تغيرت الوظيفة الجمالية للثقافة، وتبدلت أهم مبادئ ورموزها بعد إخضاعها لسطوة الماكينة الإعلامية، لدرجة بروز دعوات مناقضة لروح الثقافة، من خلال الترويج لكتابة صحفية نفعية، ذات قيم جمالية مخفّضة، أي كتابة توصيلية حد العادية بل الابتذال أحياناً،  مع التأكيد على عدم الأهمية لفرادة الانتاج، وانمساح الحدود الأسلوبية والإصطلاحية الفاصلة بين الفعاليتين، بدعوى انتاج حالة ثقافية على درجة من التجانس مع العصرنة.

الاقتصادية - الثلاثاء 23 أكتوبر 2007