طباعة    ايميل

عندما بكى نيتشه!

حتى السينما حين يحضرها تتحول إلى منبر لمقولاته المثيرة للجدل، ففي فيلم " عندما بكى نيتشه " المأخوذ عن رواية بنفس العنوان لأيرفرن يالوم، تستحوذ أفورزماته الشهيرة على أحاريك الفيلم الفنية والموضوعية، حيث تتردد كايقاعات كلامية ساحرة على خلفية سينماتوغرافية بديعة، لتصد بغموضها الفلسفي تسجيلية الوثيقة التاريخية، أو ما يعرف فنياً بالدوكيودراما، حتى الطريقة النفسية المستحدثة المعروفة بالتداعي الحر، التي كانت حركة علاجية واعدة آنذاك، والتي أرادها المخرج بينكاس بيري محوراً للقصة، تضاءلت كموضوع أمام سطوة حضوره، فالفيلم مستخلص من مقولته الفلسفية " الحياة إمرأة " وبمنسوب أقل من جدلية الحب والصداقة كما جاء في البوستر.

وباختصار، يسلط الفيلم الضوء على مأزق عاشقين إشكاليين أواخر القرن التاسع عشر ( 1872 ) في فيينا، حيث تتقدم الشاعرة الروسية الفاتنة لويس فان سلومي ( كاترين وينيك ) إلى الدكتور جوزيف بيريور ( بن كروس ) بطلب شخصي واستثنائي لإنقاذ فريدرك نيتشه ( أرمان أسانتي ) من ميوله المرضية الحادة للإنتحار نتيجة رفضها الإقتران به، وإيماناً منها بعبقريته وثوريته كمفكر، وضرورة إبقائه على قيد الحياة خدمة للإنسانية، لكنه يتردد في الإستجابة لطلبها إذ تحرضه سكرتيرته فراو بيكر على الرفض وتعطيل المهمة، حتى يوافق في نهاية المطاف على القيام بالمهمة بعد اطلاعه على كتب نيتشه ووقوعه تحت تأثير جاذبية أفكاره، وسطزة مقولاته.

وبسبب فقر نيتشه، وعدم قدرته على دفع تكاليف العلاج يولي الأمر إلى تلميذه الشاب الطموح سيغموند فرويد ( جامي ألمان ) مع احتفاظه بالإشراف على حالة مريضه بدون علمه. ومع مرور الوقت يكتشف ما يجمعهما من أعراض العشق الفلسفي للمرأة أو ما يعرف بالوومنلوجي، حيث تنتابه نوبات من التوتر والكوابيس والقلق الغامضة نتيجة علاقته العاطفية الخائبة مع مريضته السابقة بيرثا ( ميشال ياناي ) وحينها يتأكد ألا مجال لمداواته إلا بإخضاع ذاته هو الآخر لذات العلاج القائم على التداعي الحر لمواجهة نفسه بهواجسه ومخاوفه المزمنة، أو هكذا يحاول المخرج تقديم صورة عن قرب لنخبة إجتماعية ذات نكهة ثقافية تأسست علاقاتها على الاحترام المتبادل والتحاور في حقبة تاريخية استثنائية، لتبقى معضلة الكيفية التي يمكن من خلالها ترجمة تلك العبقريات إلى الشاشة، فاللهجة الفلسفية المفتعلة - مثلاً - هبطت بذلك الشريط البصري إلى مستوى المرافعة الكلامية.

وبموجب إدراكه العميق بخطورة حالته العاطفية، وأن الحياة بدون المرأة لا يمكن أن تحفل بالألوان، ولا تتمظهر إلا بلون أحادي قاتم، يرتد الدكتور بريور إلى داخل عقله الباطن في رحلة وعرة عصبياً، محقونة بجرعات هائلة من الأفكار والمفاهيم الجدلية، ويضع ذاته بكل تجرد تحت طائلة التشريح النتشوي. وعلى إثر ذلك التجادل الحاد مع ذاته تتحول أسرته إلى عبء نفسي، كما يغترب عن زوجته، ويفر من أهله إلى حبيبته بيرثا بذريعة أنه لا يمتلك إلا حياة واحدة ولا بد أن يعيشها كما يريد، بعد أن استشعر نشوة الحب الموجبة لقتل مخاوفه واحترازاته، لكنه يفاجأ بوجودها مع حبيبها الشاب تتودده بذات العبارات التي خاطبته بها لحظتة افتراقهما، الأمر الذي يصيبه بالخيبة ليتراجع عما اعتقده حياة عاطفية مثالية، ويعود مصدوماً ومستكيناً إلى أسرته على إيقاع تحليلات فرويد النفسية، وعبارات نيتشة الصادمة، الخبير بمراوغات النفس البشرية وانزلاقاتها الشعورية واللا شعورية.

وفيما بدا الدكتور بريور في آخر الفيلم حكيماً معافى وكأنه قد تخطى أزمة منتصف العمر، ووساوس الإنغرام الإستيهامي بالمرأة، ظهر نيتشه وكأنه قد شفي تماماً من جنونه وميوله للإنتحار، مدركاً أن الإنعزال في نهاية المطاف لا يولّد إلا المزيد من العزلة، متلذذاً بترديد عبارة " نحن أصدقاء .. أحب أن أكررها ". وقد بات أكثر استعداداً لبدء مرحلة أكثر استقراراً واتزاناً. حيث قرر مغادرة فيينا والتفرغ لإنهاء رائعته " هكذا تكلم زرادشت ". لكن الفيلم يستبطن خطاباً أكثر تراجيدية، فقد حرّضه الدكتور بريور من خلال طقس اعترافي تطهيري على الإعتراف بأن المرأة التي طالما وصفها بلعبة الرجل، لم تخرج منه أبداً، خصوصاً عندما بكى أمامه بدموع سخية لم يذرفها في حياته - حسب اعترافه - إلا بعد أن فتح صديقه/طبيبه بيريور الباب، فساله عما يمكن أن تقوله الدموع لو نطقت، وحينها استدعى لحظة ركوعه عند قدمي سلومي التي أدّت هي الأخرى دوراً تضحوياً لإنقاذه، متوسلاً إياها أن تقبله زوجاً، وكأنه يقر بالمقابل بأن الرجل أيضا هو لعبة المرأة بقدر ما هي أخطر لعبة يمكن أن يلعبها الرجل.

لم يتحرر الفيلم من مقولاته، بقدر ما أفلّمها، وربما أعاد ترتيبها بتسلسل أكرونولوجي للوقوف على حقيقة ذات قوّالة لا تكف عن أعلان اعتقاداتها الشعورية والتباهي بها. ويبدو أنه أراد في مكمن من أهم مكامنه التأكيد على أن نيتشة هو ضحية إعتقاداته، فمن يؤمن بأن المرأة الحقيقية الفائضة بالمشاعر تفتت الرجل عندما تحبه، لا بد أن يختلط حبه بشيء من الجنون. ومن يحدق في جهنم، حسب مقولته الشهيرة، ترد عليه جهنم بتحديق مضاد، يودي به في هاوية أشد وأمضى. والهاوية هنا - أي في الفيلم - ليست سوى المرأة. أجل، المرأة، التي طالما وصمها بالزيف والهشاشة والخداع التي أوهنته لفرط تعلقه بها، وأجبرته على البكاء في نهاية الأمر.

هكذا تهاوى المتغطرس نيتشه عند قدمي إمرأة وبكى بحرقة وذل العاشق بعد أن صار لعبتها، وكأنه قد تخلى عن نصيحته الفارطة في الذكورية لصديقه بيريور بألا يذهب إلى المرأة إلا ومعه الكرباج، حيث أبدى في المشهد الأخير ضعفاً إنسانياً محيراً، وحناناً رجولياً استثنائياً قبالة سلومي وكأنها قد أوقظت فيه كل حبيباته المستحيلات، وغرامياته الخائبة، كحكايته مع ( كوزيما ) زوجة صديقه الموسيقار فاجنر، الذي كرهه وعاداه واستخف بموسيقاه لأنه رفض التنازل له عن زوجته، فقد تعددت خيباته لأنه كان يبحث عن الحب في المكان الخطأ، وربما لأنه توهم نتيجة الافراط في إعتقاداته الذكورية أنه ينتمي إلى ذلك الصنف من الرجال الذين بمقدورهم تمكيث المرأة في المرأة.

الاقتصادية – الثلاثاء 6 مايو 2008