طباعة ايميل
عقل غير هادئ
تحت وطأة الحب والليثيوم

بحرفية وحب، نقل حمد العيسى إلى العربية كتاب " عقل غير هادئ ". وهو عبارة عن سيرة ذاتية عن الهوس والإكتئاب والجنون " تحكي من خلاله عالمة النفس الأمريكية كاي ردفيلد جاميسون، بشاعرية وخبرة، معاناتها مع حالة " الإضطراب الوجداني ثنائي القطب " وتشرح الكيفية التي كان فيها الحب، بالإضافة إلى العلاج النفسي والدوائي بالليثيوم، طريقة ناجعة لإنقاذها من هوس إكتئابي حاد، غالباً ما يسلم ضحاياه إلى الإنتحار. وبسبب إحساسها بأهمية خبراتها الشخصية والسريرية قررت أن تستعرض خطورته المميتة، ليس من منطلق رثائي للذات ولكن بهدف التواصل مع المبتلين بهذا العرض النفسي القاتل.
ولأنها تجمع بين الخبرة والمعاناة جاءت كتابتها معزّزة بالعقلانية والعلمية، ومفعمة في الآن نفسه بفيض من المشاعر والتجارب الخاصة، فعندما فكرت بتأليف هذا الكتاب، كما تقول، تخيلته كتاباً عن مرض الأمزجة في سياق حياة شخص ما. ولكن عندما بدأت بكتابته " تحول بطريقة ما ليكون على نحو كبير كتاباً عن الحب أيضاً. الحب كعامل مؤازر، والحب كعنصر مجدد، والحب كأداة للحماية. فبعد كل ما بدا أنه موت في عقلي أو قلبي، عاد الحب ليعيد خلق الأمل ويسترد الحياة. لقد استطاع في أحسن حالاته أن يجعل الحزن الذي ورثته في الحياة أكثر تحملا. وأن يجعل جماله جلياً " أو هكذا انتصرت على المرض/الوحش، بعد أن جعلته كائناً جميلاً، حسب وصايا الصينيين، فقد وهبها هذا التجابه فرصة الغوص إلى أعماقها النفسية بإحساس رومانسي.
في لحظة من لحظات الإحساس بالخطر انتبهت على تناقض ذاتي يلخص انفصامها المرهق، كما أفصحت عن ذلك بمونولج داخلي مربك " أي من مشاعري حقيقي؟ أي أنا هي أنا؟ الفتاة الشاردة المتهورة والفوضوية والنشيطة والمجنونة؟ أو الخجولة والمنعزلة واليائسة والإنتحارية والهالكة والمنهكة؟ على الأرجح صفات قليلة من كليهما، وآمل آلا أكون أكثرهما ". ونتيجة شعورها المتراكم بتهاويها انتفضت لتنتصر لما تبقى منها، كما عبرت عن تلك المراودات الكابوسية بعبارات يائسة " الموت وملحقاته كانوا رفقاء دائمين. رأيت الموت في كل مكان، ورأيت في عقلي الأكفان. وبطاقات تعريف الجثة المربوطة على اصبع القدم، وأكياس الجثث. كل هذا كان دائما يذكرني أن النهاية الحتمية آتية قريبا وهي المقبرة ".
لم يكن من السهل عليها في أول الأمر الخروج من حالة الإنكار التي تعيشها قبالة مرض كاد أن يدمر حياتها العاطفية والمهنية، ولذلك أنتابتها حالة من التأفف عندما أخضعت لفحص تحليلي وتاريخي عميق كمريض نفسي، وكادت أن تفر لولا براعة طبيبها الذي أقنعها بأسلوب كلامه وليس بكلماته. وفي المقابل لا توجد طريقة سهلة لإخبار الآخرين بحجم المعاناة مع ذلك الاضطراب النفسي، لأن من يسمع عن هذه الأعراض لأول مرة لا يتفهم ولا يراعي المعنى من وراء عذاب كآبة لا نهاية ولا حد لها، رغم ما يتميز به بعض المصابين بالهوس الإكتئابي من ميزات إستثنائية تنعكس كهبات للمجتمع، فهم في الغالب ينتمون إلى فئة المبدعين، حتى أختها وبختها، من منطلقات دينية وأخلاقية لإذعانها للدواء المنظم أو ما سمته " ليثمة مشاعرها ". لكنها قبلت بتجرع الليثيوم حتى لو تصاعدت مضاعفاته إلى مستوى التسم للفرار من انتحار محتّم.
وكما يجعل الحب الحياة أكثر احتمالاً، حيث تستدعية وتستعين به، لصد الرعب والوحشة، والسماح بدخول الحياة والجمال، لليثيوم أيضاً المفعول ذاته، فهو برأيها " يمنع حالات ابتهاجي الفاتنة ولكن المدمرة، ويقلل من اكتئابي، وينظف تفكيري الفوضوي من نسيج العنكبوت الذي يعيقه، ويبطئني، ويهدئني، ويمنعني من تدمير وظيفتي وعلاقاتي، ويجعلني خارج المستشفى، ويبقيني على قيد الحياة " لدرجة أنها تعادل رباطة جأش حبيبها بثلاثمائة رطل من الليثيوم، كما تلاطفه إمتناناً لوجوده بقربها، فالحب بالنسبة لها هو الجزء الجوهري الإستثنائي من السور العازل لأمواج الإكتئاب العاتية.
إذاً، الليثيوم صديقها اللدود، كما تشرح علاقتها الحزينة والأبدية معه، وتصر على تقبل قواعده بلطف فيما يشبه الوصايا، حيث تستلزم هذه العلاقة الكثير من الصبر، والتكيف، والتفهم، واستقبال ملاحظات الآخرين بمرح، وتذكير النفس بعواقب الإقلاع عنه، والتأكيد الدائم للذات بجدوى راحة البال الناتجة عن تعاطيه، وما يفتحه من إمكانية لجعل العلاج النفسي ممكناً وناجحاً في تفسير التشوش وكبح الأفكار والمشاعر المرعبة، والتحكم في المزاج، وإعادة الأمل، وإمكانية الإستفادة من كل التجارب.
إذاً، الحبوب وحدها لا تقدر أن تريح الشخص في العودة إلى الواقع، كما تستنتج وتوصي، فالأدوية " قد تنجح أو لا تنجح. ومن الممكن أن تكون محتملة أو غير محتملة ". وعليه لا بد من الإستعانة بالحب لمراقبة الجنون، وترويض الذاكرة التي لا تكف عن استعادة الجوانب الكالحة من التاريخ، ولكن " لا يوجد مقدار من الحب مهما كان يستطيع أن يعالج الجنون أو يجعلك سعيداً أثناء نوبات الأمزجة السوداء " فهو برأيها " يستطيع أن يساعد ومن الممكن أن يجعل الألم أكثر احتمالاً " وفي المقابل " الجنون يستطيع بكل تأكيد أن يقتل الحب، وغالباً ما يفعل ذلك من خلال سوء الظن، والتشاؤم القاسي، والسخط، والسلوك الشاذ وخصوصاً بسبب الأمزجة العنيفة " أو هذا ما أستخلصته ذات مبتلاة بهوس إكتئابي متوحش، وعرفت كيف تثاقف جسدها.
الاقتصادية – الثلاثاء 1 يوليو 2008
|