طباعة ايميل
متعة التفرج على فرانك لانغيا وهو يشيخ

يصعب تصور فرانك لانغيا خارج ترشيحات الأوسكار، عن دوره في فيلم Starting Out In The Evening المأخوذ عن رواية بريان مورتن، حيث يجسد بكفاءة لافتة شخصية روائي أمريكي مشهور هو ليونارد شيلر. وهو فيلم بسيط، هادئ الإيقاع، يستمتع من خلاله المشاهد بالتفرج على كاتب منسي، تنضب مخيلته الابداعية ويذوي جسده ، خصوصاً في اللقطة التي يظهر فيها عارياً تماماً، مستنداً إلى جسد كيسي ( ادريان ليستر ) صديق ابنته ارييل ( ليلي تيلور ) وهو يتمتم بمنتهى التعب واليأس " نصيحتى لك ألا تذهب إلى الشخوخة ".
كل من كتب أو يفكر في كتابة رواية سيجد بعض ضالته في هذا الفيلم الذي يبدأ بلقطة لشيلر متمسمراً بملابسه الرسمية أمام آلته الكاتبة العتيقة، وهو يحاول أن يكتب ولو جملة واحدة لإنهاء روايته الأخيرة، لكنه يفشل. وفي هذه الفترة الحرجة من حياته، تقتحم عالمه هيذر وولف ( لورين امبروز ) التي تحضر شهادة الماجستير في أعماله، وتتعهد له بإعادته إلى واجهة المشهد، إيماناً بمنتجه الأدبي حيث موضعته في مصاف كبار الكتاب إنطلاقاً من مقولته، بأنه يتنفس نفس الهواء الذي يتنفسونه.
في بداية الأمر يرفض التورط فيما يشغله عن إكمال روايته، فتغريه بلباقتها، وإحساسها الشاعري بالحياة، وهكذا تنشأ بينهما علاقة غير متوازنة، يعتقدها في البداية مجرد تأملات معجبة أكاديمية في أعماله، إلى أن تفاجئه باستنتاج تفسر بموجبه جانباً مهماً من حياته من خلال رواياته. وكمن يُصدم بحقيقة مؤجلة عن نفسه، يمرر أصابعه بتوتر واضح على نظارته ويتمتم " يا إلهي ... ألا يمكن للكاتب أن يقتبس من حياته دون ان يتهم بكتابة سيرته الذاتية!! " إلى أن يعترف باستلافه الدائم مما عاشه بشيء من الموضوعية، حسب زعمه. لكنها لا تقتنع بمناورته، وتصر على مواصلة استجوابه بشراسة، تنفيذاً لنصيحة صديقتها " يجب أن تجرحي مشاعر الناس حتى تكوني كاتبة ... أن تكوني حقيرة أحياناً بتوجيه الاتهامات ليسمعك الناس ". وهكذا تطارده بتساؤلاتها الفطنة، من واقع افتتانها بحميمية بطلتي أول روايتين من رواياته، وعدم احساسها بتوفر النبض والدفء في الأخيرتين، إلى أن يقر بأن الحب الذي أدمن تمثيل دوره لزوجته المتوفاة " ستيلا " في الواقع والأدب، لم يكن سوى كذبة كبيرة، كما يعترف بكتابة روايتين لم ينشرهما بهذا الصدد.
ونتيجة اقترابهما الحميمي، تتجرأ على مصارحته، في واحد من أقوى مشاهد الفيلم، حيث يستنكر تحريها عن حياته الشخصية، فتعاتبه بعبارات متواصلة " لم تكن صريحاً معي، فتساءلت إن كنت صريحا مع نفسك .. فأنت لا تحدثني عن زواجك إلا كخزانة فنية " وعندها يتنازل عن كبريائه ويصارحها " لقد كان عملاً فنياً، ومثله مثل الأعمال الفنية ليس كاملاً " وبدون هواده تباغته " زوجتك هجرتك من أجل رجل آخر " ولكنه لا يستسلم " ما علاقة هذا بعملي؟ " فتنهي مراوغاته باستنتاج موجع " الحياة خانتك وأنت تريد الاختباء وراء هذا. وقد أخذت شخصياتك معك، وجعلت من نفسك حارساً عليهم ".
كل تلك المجادلات الاستفزازية كانت تصيبه بالانفعال، لكنها لا تقرّبه من لحظة إتمام روايته، لأن شخصياته الذين تبعهم باخلاص في لحظة عمره الرمادية هذه، ولمدة عشر سنوات، لم يفعلوا ما يثير الدهشة، وهذا هو سر عطالته، فالرواية عنده تبدأ بمراقبة شخصية ينتظر منها أن تفعل شيئاً مشوقاً، كما حدث حين انتبه لامرأة تلامس تمثالاً، وليفهم سبب قيامها بفعل الملامسة كتب رواية " الرقة ". وهنا يكمن مغزى عنوان الفيلم، حيث يعرف تماماً أن البدء من جديد هو المطلوب، ولكنه لم يعد يتمتع بالقوة الكفيلة لاستئناف أي شي.
لهذا السبب فاجأ هيذر بلطمة مباغتة على وجهها، بعد أن أنجزت رسالتها التي لم ترقه كثيراً، لأنها حاولت اقناعه بامتلاك طاقة استثنائية، ومن أجل ذلك ساكنته بمنتهى العطف والرغبة. كانت تلثم يديه المتعبتين، وتهامسه بما يشبه العزاء " أنت قاس جداً على نفسك ". وفيما كان يحدق في وجهها باستسلام واستغراب، خلعت نظارته، ولطخت جبينه وشفتيه بالعسل. ولأنه لم يعبر عن أي ممانعة، طلبت منه الاستلقاء إلى جانبها بكامل ملابسهما، إلى أن أقنعته باستنفاذ ما تبقى من كفاءته الجسدية، ليصاب على اثرها بنوبة قلبية. ولم يكن نادماً، كما يبدو من عبارته المسترخية " لقد وهبت رجلاً عجوزاً بعض الحماسة ... أنا سعيد بمعرفتك ". وعند هذه المحطة المؤلمة افترقا، حيث تركت له مفتاح الشقة، والنسخة الأصلية من روايته " المدينة المفقودة " وصورة فوتوغرافية له في شبابه، لتظلم الشاشة على ايقاع آلة كاتبة شائخة وجسد مهدّم.
الاقتصادية – الثلاثاء 12 أغسطس 2008
|