طباعة    ايميل

الرواية .. حين تسفّه أحلام المناضل السياسي

 

لأنها مكتوبة في الغالب من خلال ذوات لم تتمثل الخبرات اللغوية واللالغوية بما يكفي، ومؤسسة في جانب منها على الإثارة والتهييج والتماس الصوري مع العناوين السياسية والاجتماعية الصاخبة، تعمل الرواية في السعودية، ضد أفكارها ومراداتها التنويرية، حيث الفصل الدائم بين الأداة والمعنى. وكثرة الطرق على ما يمكن وصفه بالنضال السلبي، كما يتجلى ذلك الارتكاس في نموذج المناضل السياسي، بما هو ركيزة من ركائز التغيير وتبديل قواعد لعبة القوة والسيطرة، حيث يُنكًّل به في الرواية السعودية كشخصية مرذولة وغير جاذبة، فهو ليس أكثر من كائن معطوب ومهووس بالمظاهر، وغارق في شكلانية الممارسات الليبرالية، وكأن مرجعياته، أو قدره بمعنى أدق، هو ذات العنوان الذي اختاره (فهد العتيق) لروايته (كائن مؤجل) أو كما اختصره في عبارة كثيفة الدلالة "أشعر أنني شيء مؤجل، أو كائن مدجّن".
هكذا يستدعيه أغلب الروائيين، أو يغترفونه من الواقع بوعي أو لاوعي، ففي رواية (طوق الطهارة) يعيد (محمد حسن علوان) تركيبه كتوليفة بشرية مثيرة للشفقة، أو كشبح رمادي قادم من الماضي، يتكلم بنبرة "بطيئة هادئة" تثقل السيولة السردية. مجرد شخص أنيق مسكين وتائب عن الممارسة السياسية، يتعيّش على ذاكرة رومانسية ناعمة. وبمنتهى اليأس والإعتداد بماضيه النضالي المشوش يحاول أن يقنع ابنه (حسان) بمآثر وأمجاد لم يدونها قلمه "الباركر الأثير". وكما التاجر المفلس، يباهي أمام إبنه بقصاصات باهتة وأشرطة وعناوين قديمة لمناضلين مات أغلبهم، حيث يُخرج "من أدراجه أوراقاً مكدَّسة، ومخطوطات كتابية" تحتوي على ما يتوهمه "تجربته القديمة في السجن التي كتبها بنفسه في زنزانته الرطبة بجدة".
من ذات المكمن الماضوي المتخثر يتم استدعاء (رديني السالم الرديني - أبو جمال) ذلك الشخص غريب الأطوار، المعارض السياسي، اليساري، القومي السابق، حسب توصيفات (ابراهيم الخضير) الذي جسّده في روايته (عودة إلى الأيام الأولى) غارقاً في الكحول مع ابنته/نديمته (عروبة) التي لا تقل عنه خيبة وانفلاتاً، والتي يراها والدها كمعادل حياتي للعروبة التي صارت مومساً، كما يكرر في هذياناته المتواصلة، وبنبرته اليائسة، وأفكاره المتناقضة، وكأن المناضل مجرد ذكرى باهتة، لا محل لها في الآنات الحاضرة، كما تختصر (أميمة الخميس) في روايتها (البحريات) إرهاصات ذلك الأفول النضالي مقابل تشكُّل الدولة في أوائل الستينيات وبروز ما تسميه "القبضة الحديدية".
بشيء من الجرأة فتح (تركي الحمد) في ثلاثيته (العدامة - الشميسي - الكراديب) بصيص ضوء في ذاكرة المسكوت عنه سياسياً، ولكنه بوعي أو دون قصد، سنّ القوانين النكوصية لذاكرة دلالية رجعية مثقلة بالكثير من التبخيس والتضئيل لتاريخ المناضلين السياسيين والمصلحين الاجتماعيين، حيث بالغ في تأمل قيمتهم من خلال ملامحهم الشكلية والاستهزاء بتاريخهم، رغم استدراكاته اللاحقة، ومحاولته الحذرة لترميم خطأ تسفيه رومانسية أحلامهم، فالرفيق فهد أبيض لدرجة البرص، وموافق اليجاري جاحظ العينين، بارز الأذنين. وكلهم يعيشون لحظة مراهقة ثورية قبالة بطله (هشام  العابر) المعروف "بشدة ذكائه، وعظيم ثقافته، بشهادة الجميع، بالرغم من صغر سنه!!!" خصوصا ضمن الحالة التي يستحضرها كروائي، بذريعة المراجعات الملتبسة بالتراجعات، أي كثقافة سوسيولوجية ارتدادية، وذلك في متوالياته الروائية التشنيعية بالفعل النضالي، المكتوبة بشيء من الانسجام مع مقولات المؤسسة، وليس من وجهة نظر المضطهدين أي التطابق معها على مستوى اللغة والرؤية في تفسير طبيعة الصراع، وقياس قامات المناضلين، أو إعداد سجل غير منصف بتضحياتهم، فيما يفترض في الرواية أن تنهض بمهمة ترميز المخلصين والشرفاء منهم، وإبراز مآثرهم البطولية، حيث تبدو الفرصة في مثل هذا النوع من الروايات للتأكيد على تعدد الأصوات كقيمة فنية.
أما (علي الدميني) فيحاول ألاَّ ينفصل عن ظرف تاريخي جامع، حيث يتموضع بروايته (الغيمة الرصاصية) في قلب الحراك الاجتماعي، ويحشِّدها بمجموعة من الحالمين، الذين يرفضون أن يكون السجن فضاء للانقطاع سواء عن بعضهم البعض أو عن العالم الخارجي، إذ لا يكفّون عن الاحتفال بخيبتهم الثورية من خلال الأغاني والأشعار، وحيث يخططون بمثالية فارطة داخل المعتقل، بما هو محطة مؤقتة، وليس محلاً للإقامة، للتوحد خارجه أيضاً في كيان يحفظ مصالحهم المشتركة، فيما يبدو حالة من التعاقد الرومانسي على وطن مؤثث بجملة من المناشط الروحية والمادية الكفيلة بتحقيق بعض شروط المجتمع المدني، كما تنبئ عن ذلك شعرية العبارات المتطايرة على لسان المناضلين، الذين أودى بهم نص (سهل الجبلي) في السجن، حسب تهكمات (صفوان) الودودة "ها هو نصك يضعك ويضعنا في هذه المغارة" حيث يتفق الراوي وأبطاله على بذل شيء من الجهد من أجل فهم أفضل لواقعهم، وعدم التسليم بعزلتهم، إي إضفاء جرعة من الأمل ضمن واقع بائس لالتقاط جماليات الحياة.
الاقتصادية – الثلاثاء 19 أغسطس 2008