طباعة    ايميل

التمرد على فروض البطركية

لم تعد المخالفات الشرعية بمنظور أغلب الروائيين خطايا تستوجب العقاب، بل مجرد أخطاء يتحمل الفرد مسؤولية تبنيها، دون حق تجريمه أو تحميله جريرة المساس بالمعتقد الديني وهتك النسيج الاجتماعي، الأمر الذي يفسر استشراء مشاهد كثيفة وفاضحة من التفسخ والانحلال في الرواية السعودية، تأكيداً على حق الفرد في التجربة، واكتساب المعرفة عبر الأخطاء. وبموجب أغلب الروايات المحقونة بروح التمرد، يحق للمرأة التصرف المطلق في جسدها، وإعادة موضعته كما تشاء، ولو أدى هذا الإعتقاد المتطرف إلى اعتناق (المثلية) أو مديح ذلك المنحى على الأقل، وهي قيمة مركزية من قيم الأنوار الصادمة، على اعتبار أن المساس بحرية الفرد يعني اضطهاده بشكل ما من الأشكال، واستلابه - ككائن تنويري - بعض خصاله وامتيازاته التي يعتد بها، وهو منحى كتابي تتبدى معالمه في وفرة الروايات المكتوبة بأقلام نسائية ترفع لافتات التحرر، وقد صارت تعادل من الناحية الكمية ما ينتجه الرجل، وهو مؤشر يدل على امتلاك المرأة لصوتها الخاص، وانعتاقها من الوصاية الذكورية، ففي رواية (الآخرون) تستعرض (صبا الحرز) أزمة وجودية تُنهك مشاعر بطلتها المسكونة بمرضٍ اسمه (ضي) حيث تتفتت حسياً على إيقاع عشق حارق لجسدٍ أنثوي يباهي "جداً بحلواه".
وقد جسّدت (رجاء عالم) في روايتها (خاتم) جانباً من ذلك الإنهمام النسوي بتأكيدها على إنفصام وعي الكائن البشري ما بين فائض امتيازات الذكورة مقابل اضطرارات الأنوثة المقموعة، حيث تعاني بطلتها (خاتم بنت الشيخ نصيب) المحبوسة في جسد ذكوري مزيف، من التباس شعوري بمجرد أن تلمح كائناً أنثوياً قبالتها " لكأن جسد ذكر يلتحم  بجسد خاتم كلما نظرت في تلك العيون". وبالمقابل أدمنت (زينب حفني) تلك السجالات المزمنة، القائمة على ثنائية الغدر الذكوري مقابل الإنقهار الأنثوي، كخطاب ملازم في كل أعمالها الروائية بتكرارات أشبه ما تكون بالبكاء على أطلال الأنوثة المهدورة، كما يتبين - مثلاً - في روايتها (ملامح) المثقلة بعبارات بطلتها (هند) المحقونة بجاهزية حس الإدانة للرجل، والفارطة في التقريرية والخطابية "أحيانا وأنا أنظر في وجوه إخوتي، يحيرني سؤال غبي، إن كان لديهم علم بعلاقاتي المثلية. أستخف من سذاجتي. بالتأكيد هم يغضون النظر ما دام ميراثي بخير، بعيداً كل البعد عن متناول رجل يطمع في الحصول عليه".
وبمنطق الحريم أيضاً، عبَّرت (نورة الغامدي) في روايتها (وجهة البوصلة) عن الطابع الدرامي لذلك التجابه في عباراتها الاستسلامية اليائسة "لا أتذكر أنني حاربت من أجل نفسي..بل أترك للآخرين حرية استعبادي، وأعتبر ذلك كرماً". أما (طيف الحلاج) فقد جاءت روايتها (القران المقدس) كمرافعة صاخبة ضد الحيف الذكوري، أي لإنقاذ جنس النساء مما تسميه (بؤس الحريم) حيث استنجدت بكل السلالة النسوية عبر التاريخ لترفع منسوب المواجهة مع الرجل إلى مستوى الأيدلوجيا، فاستعارت صوت (عشتار) لإعادة تأهيل جسد امرأة نصف ميت، ونذرت نصها لقضية نسوية بامتياز، لتجعل من تلك المرأة المعطوبة "مفرَّغة من شوائب إيمان العبيد، ومحصّنة من براثن كفر الصعاليك.. أنثى مجردة من ترسبات الموروث المترهلة!". وبنبرة رثائية، خالية من التحدي، ومحقونة في الآن نفسه بحاثات الجندر، فتحت (ليلى الجهني) صفحات من ذلك المكمن المأساوي، بملامسة التداعيات العاطفية للخطاب النسوي وذلك في روايتها (الفردوس اليباب) حيث أفصحت عبارتها القدرية عن رفض اضطراري لممليات الجنوسة "أليس عذاباً أن تكوني إمرأة" .
انفجار الصمت النسوي هذا ليس إلا دلالة من دلالات التمرد على فروض البطركية، وهو ما يعني أن الذوات الروائية بقدر ما هي بحاجة إلى أن تؤكد على علو شأن هذه القيم التحررية، وتخصيب قاموس المطالب الأنثوية بالمطالب العادلة، لا يفترض أن تغفل عن حقيقة مفادها أن العقل الجمعي للمستنيرين والمستنيرات يفترض أن يشتبك مع الوعي الجمعي من خلال سجال يقارب القضايا الجوهرية، وليس باستعراض مظاهر شائهة من قبل ذات مترفعّة تضع كل المتواليات الاجتماعية تحت طائلة النقد دون احتراز، أو تتموضع بما يشبه القطيعة مع (الآخر) بكل تمثُّلاته، وهو ما قد يحرف المهمة التنويرية عن أهدافها وتصيبها بعطالة.
المجتمع المدني ليس مفهوماً خلاصياً مجرداً، أو افتراضاً ذهنياً، بقدر ما هو ضرورة تتحقق فيها (المجتمعية عبر الفردية) الأمر الذي يعني أن تحدث الرواية في السعودية تماسها بعملية تاريخية على درجة من التعقيد بعيداً عن رطانة الهوية والأصالة والخصوصية، وبدون الرهان على إنهاضه بروافع الشعارات السياسية والحقوقية الفارغة وما يتبع ذلك من مزايدات العلمنة والحداثة والليبرالية، أو مناحات النسوية، التي تكتظ بها تلك المتوالية من الروايات المحقونة بالصراخ الحقوقي، والعناوين المطلبية، فيما يبدو انفصاماً أو عطالة  ما بين وعي قائم وآخر ممكن، أو محلوم به، بتحليل لوسيان غولدمان لمأزق الرواية الحديثة.
الاقتصادية – الثلاثاء 9 سبتمبر 2008