طباعة    ايميل

جماليات الفحش اللفظي

البذيء والعامي تحت ضوءٍ باختيني

 

بقدر ما تختزن الرواية وعي كاتبها، وطبيعة المضامين التي يحاول استعراضها، تشير بالضرورة إلى فرادة قاموسه وخصوصية مزاجه، فالنص الأدبي، هو عمل فني لفظي في المقام الأول، يعتمد في جوهره على الخاصية المفرداتية. وفي هذا المكمن اللغوي يمكن اقتناص ظاهرة كتابية لافتة تتمثل في إنتحاء بعض الروايات السعودية إلى الفجاجة التعبيرية. وهي حساسية لغوية منبثقة بدورها عن جرأة التماس بالموضوعات الإجتماعية الوعرة، ومتجاوزة لها في آن، خصوصاً فيما يتعلق بالفحش اللفظي، المعبّر عنه بمعجم عامي أقرب ما يكون إلى الكلام، على اعتبار أن موضوع التلفظ الذي تتشكل تمثلاته التواصلية في الفضاء الاجتماعي، هو ناتج تفاعل اللغة مع سياقات التاريخ.
ويبدو أن هذا النمط السردي المحقون بالألفاظ الخادشة للحياء آخذ في التكثّر داخل بعض المنتجات الروائية، ويراد منه، على ما يبدو، تجسيد صورة حية وصادقة للحياة الواقعية تقوم على إعلاء الهاجس الجنسي، بالنظر إلى كونه عنصر اختراق للأدب الكلاسيكي والرومانتيكي، وهو اتجاه فني مثير للتخرصات التأويلية، ويفترض تمديده كمقولة جمالية تحت طائلة الجدل النقدي، لفحص جمالياته الممكنة، وقياس ما يمكن أن يسهم به كمنطوق لهجي محلي داخل الفعل الروائي، أي قراءته وفق مفهوم باختين الشهير (الكلمة في الرواية) الذي يرى أنها - أي الكلمة - أيدلوجية بطبعها، وحضورها في الرواية يتجاوز الدلالة المعجمية، إلى مهمة التمركز في قلب النص، واستقطاب عناصره وعلاقاته النفسية والاجتماعية والتاريخية والأيدلوجية.
ذلك هو حجر الأساس في تصوره للخطاب الروائي، حيث يميل من يصفه فلاديمير كريزنسكي بأنه أعظم متفحص للكلام الإنساني، إلى القول بأن نظرية الرواية تؤكد بقوة على اللحظة الجدلية الانتهاكية التي تتحكم في المسعى الروائي بوصفه تفاعلاً صراعياً بين القوى الاجتماعية والحوارية. كما ينظر إلى الرواية بوصفها شكلاً من أشكال الأدب الشعبي، أوالجنس السفلي، لدرجة أنه يرجّح كونها كجنس أدبي متحدّرة من الأجناس الأدبية الدنيا، وبالتالي فهي أداة تعبير عن الفئات والأوساط الشعبية، وهنا يكمن السر في تنوع منطلقاتها الحوارية والتناصية، فكل كلمة ملفوظة هي محل لتصارع النبرات المتخالفة، كما تتمثل على لسان الشخوص في الروايات كتعبير لفظي يعكس شكل وحيوية التفاعل بين القوى الاجتماعية.
ولقياس منسوب الوعي بهذا الاتجاه الفني، عند بعض الروائيين الذين جازفوا بحقن نصوصهم بمفردات أو عبارات ذات طابع فاحش، يمكن تأمل طريقة العرض المرآوي لمراداتهم الموضوعية والفنية في جملة من الأعمال، بما هي قاعدة انتاج إختبارية، حيث يبدو الإنفعال بملفوظات الفحش صريحاً، متمادياً، بل صادماً عند يحيى اَمقاسم، الذي يبالغ في إظهار إنحياده الصريح لصقل مفردات صدئة مترّسبة في القاع الإجتماعي، متلذذاً بترديدها، للتأكيد على مقولة المطابقة البنيوية بين شكل الرواية وشكل الحياة، الأمر الذي يقرّب سرده من مراودات إحياء السجل الشعبي، وبناء الهوية المميزة لفئة إجتماعية من خلال ثقافتهم اللغوية، بما في ذلك شكل الإصاتة في اسمه كمؤلف، فهو يجهد لاستخدام اللغة كمركب بنيوي، وليس كقشرة قولية مكتفية بالتوصيف البرّاني.
في روايته (ساق الغراب) يحتل "أبو حشفة" حيزاً كبيراً من السرد، ويبعث عند الجميع متعة مخاطبته بهذا اللقب المبتدع من قاموس التواصل الشعبي، ابتداء من الأم التي بدأت حديث الأهل بممازحة حفيدها المختون قائلة "يا أبو حشفة كان شا تحرقنا قبل اليوم" في إشارة واضحة إلى حشفته المثلومة نتيجة فعله الأرعن، فهذا الكائن (حمود) معبأ منذ طفولته بهاجس جنسي أشبه ما يكون بعقدة القضيب الفرويدية، كما تم رسم معالمه سردياً "ما بين حين وآخر يسرق لحظة مواتية ليحملق في فرج الصغيرة متعجباً، ويقارن بينه وبين ذكره، فقد اعتاد على عملية (الفلخ) إذ يخرج حشفته باستمرار من القلفة كما يفعل الذكور الصغار استعداداً ليوم الختان العظيم، وكلما سرق نظرة على فرج الطفلة سألهن في ذهول واستغراب (وكيف تِفلخ شريفة؟!)".
هذا اللسان الفارط في جرأة التلفظ بالتعبيرات البذيئة لم يتوّلد عند يحيى اَمقاسم من الفراغ، ولم يخترع قاموسه من مخيلته، بل تم اجتراره من التاريخ الإجتماعي، وإعادة إنتاجه كوجود انطوقي على لسان الأم، بما هي ذاكرة شعبية قابلة للتنشيط والتوسع على ممكنات التوثيق والتسجيل، ربما نتيجة ما يضمره من إحساس بإمكانية أن ينعزل هذا اللسان المنسي عن سياقات الثقافة الجديدة، الأمر الذي يفسر تطرف تعبيراته، وكثافتها داخل السرد، فقد كانت تبدد ملفوظاتها المنقرضة على شكل وصايا لحمود، وكأنها توّرثه مخزون أسلافه القيمي الكامن في اللغة "حُط الرّيال في طيز الذيب يسرح لك بالغنم" وأحياناً على شكل مسامرة لا تخلو من التقريع، حيث دعته في تلك الليلة، وبعيد الغروب مباشرة، إلى فراش والده، وبدأت تحدثه بنبرة بائسة "انقضى كل هذا التاريخ وما كُتب من أهل عُصيرة واحد في مثل لهوك ولعبك يا حمود .. وصارت شِعرَتْك شيب ورافض تكبر وتعقل".
ولا شك أن أي موضوع سردي، مهما بدا على درجة من الشذوذ، إنما يقصد بتشكيله موازاة الواقع، أو الفعل الإجتماعي بما يقابله جمالياً، والتعبير عنه بشحنة من المضامين ليست كلها من داخله، بل قد يكون هذا الموضوع مدفوعاً بسلطة التاريخ والمجتمع، وحاملاً لخصائصهما، الأمر الذي يعني أن "ساق الغراب" رواية أريد لها الاحتفاء بزمن وموروث وبشر، ذوي خصوصية ثقافية، بتحريك ما تيبّس من لغتهم، واستدعاء ألفاظ فارطة في الفحش والعامية، للتأكيد على صلتها الوثيقة بكل مناشط الحياة، على اعتبار أن المنطوق المحلي، هو الخزان اللغوي المعادل للتجربة الاجتماعية المعاشة، والحامل لكل دلالاتها المحسوسة، كما تتعبأ في أشكال تواصلية مختلفة، وهو الأمر الذي أراد يحيى اَمقاسم إثبات إمكانية تحقيقه سردياً بإيراد حكاية الخادم بِخيت بَخَيْة، الذي تندرت به (زهرة) من خلال أهزوجة قالتها للتذكير بحادثة كي الأم لمؤخرته، عارضة توقعها المتهكم بأن إحدى ردفيه طابت من الجرح والأخرى باقية نيئة لم تطب بعد، فدندن بها حمود مثيراً ضحك الحاضرين " بخيت بخية . على استُه كَيّةْ .. وحدة خَمِيدةْ .. ووِحْدةْ نَيّةْ ".
من هذا المنطلق اللغوي المتطرف لفظياً يحاول بعض الروائيين إعادة الإعتبار للسجل الشعبي بدون تدليس أو خجل، بما هو مكوّن جوهري من مكونات الهوية. وبشيء من الرغبة - الواعية أو اللاواعية - لتوطين مصطلحات الفحش الاجتماعي المتداولة، يصرح عبدالله التعزي، في روايته (الحفائر تتنفس) بعلاقة شذوذ قائمة على مبدأ "الوِش". من خلال نبرة ذاتية واثقة، هي المعادل لإتجاهه الأسلوبي الذي لا ينفصل عن لغته، ولا عن نبرته الإجتماعية المتخفّفة بدورها من حس الوقار والإحتشام، على العكس من الروايات التي تواري مراداتها، وراء لغة متكلّفة، محافظة، وأحياناً مراوغة للتنصل من مهمة التلفظ بالمفردة المعبّرة، حيث يسرد حكاية سراج الأعرج الذي تعرّف على شخص اسمه محروس "ومارس معه الجنس وأصبح هو (الوِش) الذي ينبري للدفاع عنه..!وكانت الأيمان الغليظة تتوسط جميع الحكايات التي كان سليمان نردومي يرويها عن تلك العلاقة بينهما والتي يتسلى بها وسط أصحابه وتقابل بالضحكات والنكات".
الملذوذ في هذه المفردات الإصطلاحية التي تتردد في الخفاء، وبنبرة هامسة في الغالب، هو تميزها بصورة صوتية ونغمية، مع إشارة جسدية بليغة تعكس منسوب الوعي والحضور الدرامي للشخصية التي تمتلك بدورها حق الاعتداد بهذا المنطوق، كما تحتمل أشكالاً مختلفة للحديث اليومي الذي يعزز لغة السرد عندما تستدمج فيه، بالنظر إلى ارتباطها العميق بكنه الوعي، فهي ليست مجرد نعوت تلامس سطوح الحالات من خارجها، بل لغة على درجة من الكثافة، وهي بالتالي ظاهرة اجتماعية، حيث تعكس وعي الذوات المتحدثة، أي الإجتماعية الداخلية، التي ينتظم بموجبها سلم القيم الإجتماعي. وعليه يمكن القول أن لجوء عبدالله التعزي إلى هذا اللفظ الراسخ في الذاكرة الشعبية، إنما تم بانتباه، وبرغبة سافرة لتحقيق فعل (التسمية) ليرسم بلغة لا لبس فيها معالم موضوعه الجمالي، وما يستتبع ذلك من معمارية الشكل الروائي، الذي يتجاوز مفهوم التقنية على المستوى الجمالي الخالص، ليصبح شكلاً لمضمون، فهو لم يتعمد الإثارة لمجرد الإثارة بالطرق على زاوية إجتماعية على درجة من الحساسية، بقدر ما أراد ضخ قدر من القيم الإفهامية والأخلاقية داخل الشكل المعماري، لتحتدم في داخله إشكالية العلاقة بين الفعل الجمالي وممكنات التعبير الفني والمعرفي عن منظومة القيم.
الإنسان كائن حواري بطبعه، والكلمة الروائية حوارية بطبيعتها. وبموجب هذا التصور، يعتبر الحوار هو الشكل الأمثل للتواصل الإنساني، لدرجة أن باختين عادله بالحدث الإنساني ذاته. ومن خلاله يمكن ملاحظة منسوب التحقق الواقعي للشخصيات وصدقيتها في بعض المنتجات الروائية التي تؤكد على إدارة الحوار باللهجة المحكية، حيث تدفع جملة من هذه الشواهد للاقتناع بأن بعض الروايات في السعودية آخذة في الاقتراب بالشخصيات من الواقع من خلال الإتكاء على منطوقها، أو هذا ما تحاوله على ما يبدو، حيث يجهد بعض الروائيين لإحداث شيء من التلازم البنيوي لمطابقة لغتها مع واقعها، على اعتبار أن اللغة يمكن معايرتها بمستوى الوضع الاجتماعي، كما يبدو ذلك طافحاً من خلال استدعاء مفيد النويصر لشخصية (الخكري) وهو الشخص الذي يتصف بالميوعة والتأنث. واستحضاره أيضاً لفئة (البزرنجية) المعروفين بميولهم الجنسية لمعاشرة الأطفال والصبيان، فحديثه عن تلك الشرائح والفئات الاجتماعية وإن بدا حديثاً سوقياً، إلا أنه لا يخلو من حس العربدة الفرحة، المتأتية من توصيف واقعي شفاف لحب جسدي مِثلي مؤطر داخل عنوان اختراقي جامع لروايته (الوادْ والعم).
بموجب هذا العنوان الفاضح، يستزرع نصه بإشارات لفظية شهوية تنبئ عن الفعل الجنسي وترغّبه، وكأن روايته منذورة لهذه المهمة. ومن ذات المنطلق الإشاري، حاول إيجاد مبرراته الفنية لمماثلة الأيسكريم بالعضو الذكري "كيف الايسكريم يا يوسف؟" واستتباع تلك المجانسة البنائية بفعل حسيٍ إيحائي "يتلحس لحس يا طعم".. (وينفجر بالضحك). ليرد عليه بعبارة تحمل في ظاهر إنكاريتها قبولاً مبطناً، إذ لا تخلو من الغنج والميوعة "تف عليك .. اللحس (للخكاري) أمثالك". وهذا هو وجه من وجوه ما يسميه باختين (جمالية الإبداع الكلامي) المعادل للوعي الإجتماعي والمعبّر عن ماهية الذوات المتحدثة وعن انحداراتها الطبقية والاجتماعية، أي عن حقيقة رغباتها الخفية إلى جانب طريقة تفكيرها المعلنة، فالخطاب الجنسي المعبأ في مفردات شعبية صادمة "كل (وادْ) تقريباً له (عم)" هو في حقيقته محاولة لنقد العقل الإجتماعي المتواطئ على الخراب الكلي، كما يتوضح ذلك من عبارته "عندما تغمض عينيك ممدداً على بطنك في عالم كل ما فيه يطالبك بـ (فسخ سروالك) حتى تعيش". أو هكذا يأخذ الجنس شكله المتسامي، ويتصعّد كقيمة تدميرية، لا بالمعنى الأخلاقي، وإنما بالمعنى الأنطولوجي، المتعالي على مزدوجة الخير والشر، وعلى الأخلاقوية الزائفة، كما تعكس ذلك لغة مفيد النويصر المهجوس، بتوطين حزمة من عناوين جماليات الفحش اللفظي في نصه، للإفصاح ليس عن أمزجة شخصياته وحسب، بل عن معتقداتها أيضاً، وعن إحساسها المرير بواقعها، وتراتبيتها الإجتماعية.
من ذات المنظور النقدي تجهد ليلى الجهني للتخفف من وقارها اللغوي، ففي روايتها (جاهلية) تتقصّد إشاعة ملفوظات خادشة للحياء هي بمثابة التجسيد الحي لوعيها، حيث تنحاز إلى إنطاق شخصياتها بما يشبه الكلام الفردي المتحقق بالإستعمال، المتأتي في الأصل من إجتماعية اللغة، والمخترق بخصوصية التعبير الفردي، حيث تسرد بعبارات فصيحة محوّرة مأزقاً أخلاقياً مربكاً "والآن يغادر لاعناً أخته، واللحظة التي جعلت منه أخاً ". ثم تستتبع ذلك التوصيف السردي بعبارة حوارية فارطة في العامية "رِكبها، رِكبها الحيوان! رِكبها". لكنها لا تسترسل في ذلك الإيقاع السردي الشفاف، وتتراجع إلى حيرة الفصاحة بعبارة تناظرية "وهو أين كان؟ كيف لم ينتبه؟ كان يركب الأخريات" لتختتم اللقطة بعبارة تؤكد انفصاماتها الأسلوبية، ورهابها من التمادي في تلهيج الحوار، وحقنه بالمزيد من الفحش الموضوعي واللفظي "الدنيا سلف ودين يا هاشم. عندك أخت وبكرة تندم".
هنا يمكن الوقوف على خطاب هو مزيج من الفجاجة والرهاب في آن، فهو لا يواري، ولا يتهرب من مهمة الإفصاح، بل يعرّي ويفضح، لكنه لا يخلو من التردد، حيث تعبر ليلى الجهني ككاتبة وروائية على وجه التحديد عن رغبتها الواضحة في الاشتراك ضمن سيرورة تتم فيها صناعة المعيارية الأخلاقية والقيمية للواقع، كما يتأكد ذلك أيضاً من خلال انتقائها القصدي لعنوان الرواية، بمعنى أنها تنحاز إلى خطاب يراهن على الحداثة الاجتماعية من خلال تقويض الوقار اللغوي، الذي يؤدي بدوره لتقويض بنى المعاش، فهو بقدر ما يُسفر عن حقيقة القاع الاجتماعي، يفارق وقار خطابات المؤسسة الاجتماعية والدينية، من خلال اصرارها على النطق بملفوظات ذات دلالة وطابع صادم، واعتماد قاموس يتموضع على مسافة من لغة الروايات المعقّمة، الذي يكرر على الدوام مفردات توصيفية حيادية لا تمتلك القدرة على خصوصية الدّل بقدر ما تشير إلى المعاني الفقهية العامة مثل (المضاجعة وممارسة الجنس) بما تحمله تلك التعبيرات من أناقة وتواقر، ولكنها لا تستنفذ ما يختزنه هذا الخطاب من طاقة ثقافية إبدالية قوامها اللغة، إذ لا تبدي من الثورية ما يكفي لتدفيق السرد، وكأن وعيها الفردي يتصارع مع بنية الواقع الفوقية، التي تأبى بدورها التطابق مع البناء الاجتماعي، أو التماهي مع علاماته الأيدلوجية.
ليس المهم وعورة الموضوع المقارب سردياً، بل الكيفية التي يتم بها التعبير عن ذلك الهاجس، فالرواية مادة لغوية في أصلها التكويني، وعليه يمكن القول أن ذلك التراشق اللفظي الجارح أكثر صدقية وشفافية بالتأكيد من العبارات الاحترازية في رواية (الآخرون) لصبا الحرز التي تتجلى بجرأة ورهافة في السرد والتوصيف، لكن لغتها تصاب بعطب الحشمة والوقار عندما يتعلق الأمر بالحوار، لدرجة تبدو روايتها وكأنها مترجمة أو منقولة من لغة أخرى نتيجة ذلك الاغتراب، فهي مثال على الكتابة بلغة (الآخر) حيث التستر وراء اللغة الفصيحة بمعناها ودلالاتها المحافظة لردم ممكنات الخطاب، وتفادى التلفظ بعبارات حميمية، تنكشف من خلالها مهموساتها الجوانية، واستيهاماته الذاتية، الأمر الذي يشير إلى مستوى غير عادي من الجبن في الإنطراح وطرح الحياء، كما يتأكد ذلك الحياد اللفظي في عباراتها "لم نمارس الجنس بعد ... لا أريد ان أؤسس لعلاقتنا عبر جسدينا ... كيف كنتما تمارسان الجنس ... شكراً لأنك لمستني بحب". أو التدثر باللغة الانجليزية لتقيم جداراً عازلا - واعياً أو لا واعياً - بين أحاسيسها وملفوظاتها، كما يتبين من الحوار التالي " سمعتُ صوت خطوات عُمَر، لابد أنه كان يتلصص عند باب الحمام.

- ابتعدْ عُمَر..
- ما الذي تفعلينه في الداخل؟
- I have to pee!
- ولِمَ الخجل؟
- It's all about dirty words!
- ألن نقول كلماتٍ بمثل هذه القذارة وتتجاوزها؟
- سنقولها in English. والآن، ابتعدْ..".

حتى رجاء الصانع المتهمة بتجاوز المعيارية الأخلاقية، لا تبدو جريئة في التعبير عن هواجس بطلاتها بمفردات سافرة، بل بلغة تستبطن الفحش ولا تتلفظه، حيث تُجري في روايتها (بنات الرياض) حواراً هامساً، أشبه ما يكون بالنميمة والوشاية النسوية داخل حرملك محدّث، بين (لميس) وصديقتها (ميشيل) تتبدى فيه المفردات كنتاج للتفاعل الحي والمباشر بين الشرائح الاجتماعية، تقوم على موضوع التلفظ.

- المهم شوفي البنت هادي. أما عليها مواهب.
- أي وحدة منهم؟ الدفع الأمامي والا الخلفي؟
- الخلفي يا حوله!
- تو متش. هاذي المفروض ياخذون منها ويعطون قمرة حقن من قدام ومن ورا زي حقن الكولاجين!
- أحلى مواهب فينا حقة سديم. أحس أن جسمها مرة أنثوي!
- يا ليت عندي مواهب زيها من ورا. صح شيز سو كرفي بس يبغى لها تنحف شوي وتلعب رياضة مثلك.

أما مظاهر اللاجامي، الذي يتمادى في التعبير عن أقصى تجليات الفعل الجنسي من خلال لغة أدبية فصيحة، حيث يسمي الأعضاء والممارسات والنوازع بصراحة لفظية على درجة من الفجور اللغوي، حين يصف العلاقة المحمومة لبطله (أمجد)  مع بطلته (نسرين) لكنه يتردد حين يتعلق الأمر بالحوار المباشر، خصوصاً مع بطلته (سماء) التي يمارس عليها شيئاً من التدليل والتصغير فيسميها (سماؤه) حيث ينزلق السرد إلى مكامن لفظية عامية عصية على الفهم، وحيث تتأكد مفارقة فنية تفيد بأن الروائيين الموصوفين بالجرأة ليسوا بالضرورة أكثر قدرة على التسمية، والتفاحش اللفظي، كما يبدو ذلك واضحاً في مشهد لا يحتمل اللعب باللغة، حيث أبدى شيئاً من التحفظ حد التورية اللفظية، والرهاب ربما، حين هاتفها بعد أول محاولة جسدية بينهما:
- يعني انت ما شفتي من قبل؟!!!
قال بغضب واضح اشتعل في طريقه نطقه للكلمات
- وين بشوف برأيك؟!!
- يعني في صورة أو في التلفزيون أو النت ...
- لا ما شفت
- حتى لطفل من أهلك؟!!!
قالت بنبرة دلالتها التأكيد
- لا
- كيف تصوّرش لشكله عجل؟!!!
- أحمر ... لزج ... يشبه السمكة؟!!!
- ويش اللي يشبه السمكة يا مجنونة، ليش لما مسكتيه ما قدرتي تتصوري شكله؟!!
- ما أدري بس حسّيته يشبه الإيد. صح؟!! مو يشبه الإيد؟!!

ولا شك أن البذاءة اللغوية مؤذية وجارحة لمن تلامس مسامعه، سواء كانت توصيفاص لحالة أو مسبّة متقصّدة، وتتطلب جهداً نفسياً حتى لمن يتلفظ بها. ولكنها ليست مرذولة على الدوام. وبالتأكيد ليست كلها دلالة على التهتك والإنحطاط، فقد تكون أحياناً ضرورية ومطلوبة، لإعلاء شأن المكوّن الثقافي الشعبي ضد وقار وتعاليات الثقافة الطليعية، والإعلان الصريح عن قضية عادلة، فهي سلاح المهمشين والمسحوقين، وبالتالي فهي صوت من لا صوت لهم، ولكن ينبغي التعاطي مع تداعياتها بحذر فني وموضوعي، لكي يحافظ النص الروائي على أدبيته، حيث يتم توظيف تلك الألفاظ أحياناً بصورة أكثر مما يحتمله السرد، فحين تقتحم بطلة طيف الحلاج في (القِران المقدس) تجمعاً ذكورياً، وتمطرهم بوابل من العبارات البذيئة التي هي مزيج من العامية المحقونة بنبرة نسوية، فإنها تخلط ما بين شكل التخاطب الاجتماعي والصراخ الأيدلوجي، وفي هذه الحالة لن يكون الأمر أكثر من تلهيج غير مستحسن للسرد، أو تفصيح مبتسر لمفردات تفقد الكثير من خصائصها وحمولاتها عندما تنقل من مواضعاتها النفسية والاجتماعية والأيدلوجية أيضاً.
النص مظهر من مظاهر التجلي لذات تفكر وتعبر عما تفكر فيه، حتى وإن عكس ما تهجس به تلك الذات من تشظيات وانفصامات. وبموجب هذا التصور يصعب تخيل إمرأة تنتمي للقاع الإجتماعي على هذه الدرجة من التعالم، كما يصعب إنطاقها بعبارات مكتظة بذخيرة مفرداتية عن الحرية والقهر والإماء تجاورها ألفاظ على درجة من السوقية، كما يبدو ذلك من مرافعة (رباب) الفجّة "أنا بالفعل قحبة وأقولها بكل فخر واعتزاز لأني امرأة حرة، ولا أهاب أحداً، ولا أرضى أبداً بالقهر والهوان كحريمكم الإماء، اللاتي تنيكوهن فقط لتلبية شهواتكم الحيوانية. لكن لا يمكن أن أقبل أن يفرض أحد رأيه علي أو يمشي كلامه دون رضاي. اسمعوني جيداً يا منيوكين يا رجال آخر زمن، ليست كل امرأة تقبل أن تكون عبدة، وليس كل طير يؤكل لحمه وأنا لحمي أمر من المر نفسه".
قد تستبطن تلك الغضبة اللغوية رغبة لتحرير الفعل، أو الوعي الجنسي بمعنى أدق، من أغلاله الإجتماعية والسياسية. وربما تحتمل فكرة عتقه من عبودية اللغة الذكورية أيضاً، التي تموضع الكائن الأنثوي دائماً في مقام طبقي دوني، ولكن عرض المجابهة بين الرجل والمرأة بكل تلك الغرغرة الخطابية يشير إلى شكل خائب من أشكال سرد الأنوثة بلغة الذكورة، وهنا تكمن إشكالية لفظية مركّبة، حيث تتراكم مفردات الخطاب الجنسي الذكوري على لسان أنثى "على ماذا أنتم مجتمعون يا مخانيث يا عيال المنيوكة؟ من أين أتتكم هذه الجرأة يا كلاب يا جبناء؟ هل تظنون أني إحدى نسائكم اللاتي تعودتم على صفعهن يمنة ويسرة؟ شايفيني منيكة لكم!!". إذ لا يمكن تصور ذات أنثوية مقهورة بهذا القدر من التردي الاجتماعي، تختبر مفرداتها المنتقاة من الخطاب النسوي مقابل عقيدة ذكورية، حيث تنتهي الحوارات في الرواية دائما على نحو فاحش، وكأن الروائية قد استدمجت لغتها ومعرفيتها التاريخية الجامحة بأسلوب ونبرة شخصياتها المتحدّرة من القاع الإجتماعي، وهو أمر يخل بالمسافة بينها ككاتبة وبين شخصياتها، ويقلل من أثر توظيف بذاءاتها اللفظية.
في المقابل يحقق ابراهيم بادي معادلة لغوية على درجة من الفطنة في روايته (حب في السعودية) تقوم على تذويب العامي داخل الفصيح، أو التهابط بالسرد إلى مستوى الكلام، والصعود بالحكي إلى تعاليات الروّي، حيث يستدمج الفحش اللفظي داخل السرد إلى جانب الحوار، وكأنه يواري جوهر ملفوظاته في شفافية ورق السيلوفان. وهي مهمة على درجة من الحساسية، كما يبدو ذلك جلياً ومحبّباً في عباراته "أقنع نفسي بأنها لم تفعل ذلك مع أحد قبلي. لاحقاً، سأكتشف كذبها. سأعرف أنها كانت (تستشرف)  عليّ. وأنني كنت مغفلاً حين صدقت أن خبرتها وجنونها وجرأتها، كل ذلك بالفطرة". وإن كان ينزلق ببعض الفجاجة اللغوية في الحوارات وكأنه يتنازل عن رشاقة أسلوبه التوليفي ويستعيض عنه بنسخ المواضعات الكلامية الجاهزة، كما يتبدى ذلك مثلاً في صراخ فاطمة "أنا غاوية. أتقصع وأتميع وأتغنج ... وما أفعله معك أفعله مع غيرك. ابحث عن فتاة بكرتونتها. ريح بالك من النكد".
ولأنه يوظّف جملة من المعتقدات الذكورية المتأتية من ثقافة الأمثال والحكم الشعبية المتأصلة في الذاكرة الإجتماعية، يقترب ابراهيم بادي من مراداته الجمالية، على اعتبار أن ذلك الموروث متلازم بنيوياً مع الفاحش من الألفاظ بما هو المعادل للخبرة الإنسانية المختزنة في الوعي الجمعي "البنت زي اللبانة (العلك) كل ما تدوس عليها تلصق زيادة". وهو بهذا الاغتراف المباشر مما يمكن اعتباره (وحدات كلامية جاهزة) يؤكد على مقولة باختينية تفيد بكون الفلكلور الشعبي طاقة سردية ممكنة، ومادة أساسية في الرواية الحديثة، فهذا الخزين الشعبي لا يناسب خصوصية وتقاليد البرجوازية، لأنه نتاج الشخصيات والطبقات الراكسة في القاع الإجتماعي، التي بتشكلها ظهرت اللغة الشعبية بكل ما تحمله من ألفاظ سوقية وجنسية سافرة، وبكل ما تحتمله من التلاسن والسباب، فهذا هو الخطاب الذي يعكس عاداتها وهاجسها الملّح للخروج على العرف الإجتماعي، إذ لا تتورع عن إطلاق تعبيرات الفحش، ونحت نبراتها المتأتية بالضرورة من ذلك الحاضن.
من خلال تلك الشواهد النصية تتأكد الفكرة القائلة بأن الوعي الفردي أيدلوجي بطبعه. وبكون الإبداع مهما بدا مرتبكاً ومشوشاً أو حتى تجريبياً هو نشاط في حيز الأيدلوجيا، وعليه يمكن النظر إلى تلك المتوالية من الروايات المحقونة بمجاورات لفظية جريئة كعلامات أيدلوجية. ومن خلال التماس بهذا الجانب الحيوي من التاريخ الروائي يمكن تلمس شكل العلاقة العضوية القائمة بينها كآثار روائية، وبين ما يستبطنه طابعها الثوري. ووفق هذه المعيارية بالتحديد يمكن موضعتها كحساسية لغوية مغايرة، داخل حركة اجتماعية تاريخية، محمولة بوعي الفرد المتعالق بالضرورة مع شروط الوعي الجمعي، فخطاب هذه المنتجات الروائية التي تعزز المنحى الاحتفائي بالفاحش من الألفاظ هو خطاب على درجة من الانفتاح على منطوق الكلام اليومي والشفهي والشعبي، فبقدر ما تندفع لغتها في بساطة وبهجة الحكي، تحمل طاقة توصيفية رهيفة لملامسة الشخصيات في عمقها وإكسابها طابع وأصالة خصائصها الإنسانية، وتمكينها من الجهر بمضمراتها، والإفصاح عن أقصى تجليات أناها، بمعنى أنها تعبير عن اللسان الحامل لعناصر التجربة، والقادر على التعبير عن تطلعات الفرد، والتأكيد على الخصوصية والتعدد اللغوي الاجتماعي في آن، مع الأخذ في الاعتبار أن التعاطي مع هذا المنحى بدون وعي ولا احتراز قد يفرّغ النص من أدبيته، وصولاً به إلى إلى (اللانص).
وبموجب تلك العلامات الآخذة في التحشّد داخل الرواية في السعودية، يمكن القول بأنها أصبحت أكثر استعداداً لاستيعاب مختلف النبرات. ومن الناحية الأسلوبية صار بمقدورها احتواء بعض صيغ التنوع في الأصوات، من خلال هذا النمط الكلامي المتعدد، فالرواية لكي تكون رواية بالفعل، حسب التصور الباختيني، ينبغي أن تقوم لغتها على التنوع داخل اللغة الواحدة، وهو اتجاه يمكن تلمس بعض ملامحه في بعض الروايات، حيث تم استدماج أنماط مختلفة للحديث اليومي المشتمل على تعبيرات لغوية ولهجية متباينة، بمعنى أن بعض الروائيين باتوا أقدر على الإقتراب من الحافة السردية التي تعكس الوعي المتعدد، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تجاوز الهوة الشاسعة بين الشكل والمضمون، بما هو التجسيد الحي للوعي، ومن خلال اللغة بالتحديد، التي هي بمثابة خطاب وحوار يستدعي الحضور الفائض والكثيف ليس للمرسل وحسب بل للمستقبل أيضاً.
ربما يفسر هذا الإقتراب ميل بعض الروائيين الواضح لتوليد شخصيات من القاع الإجتماعي، وهي شخصيات تقف على مسافة من التقاليد البرجوازية، فشخصيات مثل (لين ومالك ورباب وحمود وسراج الأعرج ومحروس وإيهاب وأمجد وأسماء ونسرين) تتموضع في مستوى أقرب إلى الوسط الاجتماعي، وقد يهبط بعضها إلى ما دونه، لكنها لا تخترقه إلى مستوى طبقي أعلى، وعلى هذا النمط من الشخصيات تم التعويل على متغير روائي يمكن من خلاله تسجيل اختراق نوعي، وفرض صورة جديدة للإبدال الثقاقي، أي من خلال شخصيات قابلة لأن تتصعّد كشخصيات إشكالية، بحيث تكون لغتها الشعبية، المحقونة بالشتائم والتعبيرات الجنسية والهجائية مرتبطة عضوياً بواقعها كشخصيات هامشية، على اعتبار أن الشخصية مرجعية تحيل بطبعها إلى عناصر النص وخلفياته المتعددة، وهنا يكمن السر في رهان بعض الروائيين على لغة منفلتة تؤسس لعادات ثورية مغايرة تحطم وهم الصورة المحافظة، ويمكنها التعاطي مع الموروث بدون خوف أو تنصل، لتحقيق شرط الذاتية التي لا تنفصل عن الشروط الاجتماعية.
هكذا تم الإجهاز على جانب هام من المجاورات اللغوية الراسخة، التي أراد الرواد الإبقاء عليها، يوم تمت معادلة الرواية بالترهات، كما تم تفتيت مثالية الصور المتوّهمة والموروثة. وعلى إثر ذلك التقويض، يفترض أن يدخل الشكل الروائي بمعناه المعماري والمضموني حيز التطوير، أي على أساس شعور متجدد بالزمان والمكان، فالرواية التي كانت تنكتب بشيء من الوقار والحذر، تمر الآن بمنعطف الاندفاع للتشبه بالواقعي، والتماس بالأرضي، أي استخدام لغة أقرب ما تكون بطهورية الكلام التلقائي المتأتي من المعاش، وقد صارت اليوم تُكتب عبر ذوات شاردة، متخففة من الضغوطات والوصايا، حيث تعكس موضوعاتها المتمادية في الهتك، مستوى التوق لاستيعاب قيم اجتماعية مغايرة، كما تجهد لتحقيق نصاب أدبي تؤطره القوانين التي تحكم الشكل الفني للرواية، ومنسوب تطور المجتمع وثقافته التحديثية، بما تنطوي عليها من ثورية تتبناها ذوات تعي أهمية تخليص السرد من النبرة الخطابية والإنشائية، وابتكار حيل سردية تخفف من سلطة الكاتب، وتحرير النص الروائي من أحادية الصوت المحقون باعتقادات الكاتب والقامع للتعددية الصوتية.
• الورقة المقدمة في ملتقى الباحة 20 – 22 أكتوبر 2008