طباعة    ايميل

الريبارتية التويترية...إعادة المجد للفنون الكلامية

يشكل الحيز الضئيل الذي يتيحه موقع (تويتر Twitter) لكل مداخلة، أحد أصعب التحديات التي تواجه بعض المدّونين المصابين بداء الثرثرة، أي أولئك المسكونين بالرغبة في التعبير عن الأمور الصغيرة بكلمات كثيرة، إذ لا يسمح بأكثر من مائة وأربعين حرفاً ورمزاً، وهي مساحة لا تكفي أي مدوّن غير متمكن لإيضاح فكرته، والإفصاح عن وجهة نظره بتفاصيلها، خصوصاً أن إيقاع المنبر وطبيعة السجال لا تمنحه لحظة مفتوحة لتشكيل رأيه والإدلاء به، الأمر الذي يتطلب حضوره ببديهة سريعة، وقدرة على التقاط الأفكار المتقاطرة، إذا أراد أن يتقاطع مع المدّونين الآخرين، وإجراء حوار فعلي معهم، لا أن يغرد خارج سربهم، لأن الموقع في الأساس هو محل انتماء وتواصل لا مكان قطيعة وانفصال.
وإذا كان الحضور المعرفي مطلباً ملحاً، ومقاربة الموضوعات بعبارة جمالية مصقولة لغوياً ضرورة ماسة، فإن الإنوجاد الأخلاقي للمدّون مسألة تفوق كل الإعتبارات، إذ لا يشكل هذا الفضاء منصة للتشاتم والسباب المتبادل، واختراع الأعداء، بقدر ما ينفتح كفضاء للتحاور واكتساب الصداقات، بمعنى أنه فرصة للتعرُّف على (الآخر) من خلال رأيه، ومجادلته بالحسنى، وطرح الفكرة مقابل الفكرة، وهو أمر يتطلب بالإضافة إلى المخزون المعلوماتي، دربة على الحوار، وخبرة في التعاطي مع الآخرين من موقع الخصام لا العداء، ومن منطلق الإقرار بمبدأ التعدّد والتنوع والإختلاف، كما تقتضي الحالات الحوارية.
ولكن ما يلاحظ أن نسبة كبيرة من المدّونين يدخلون هذا الفضاء بأسماء مستعارة، ليس إيثاراً للسلامة كما يزعمون، ولا للإصطياد في الماء العكر وحسب، بل لتعكير صفو هذا النبع، فيما يحلو لبعض الطارئين على أدبيات الحوار، البصق في النهر الذي يشربون منه، ربما نتيجة وجود نية مبيّتة لتحويله بحماقاتهم المتعمدة إلى فضاء طارد، وهو ما يفسر تفشي حالات منغصّة من التلاسن الفئوي والطائفي والمذهبي والمناطقي والعرقي، وكأن تلك الذوات المأزومة لا تستطيع التخفُّف من أمراضها إلا بتحويل (تويتر) إلى سرير للتداعي الحر، أو مكان للتنفيس عن الإنفعالات الزائدة والخيبات الشخصية، واستدعاء تاريخ من البطولات الزائفة. ومما يزيد الموقع إرباكاً وجود كم هائل من (البيض) كما يصطلح على تسمية الذوات المستأجرة التي تقوم بدور البلطجة الإلكترونية، ويؤدي تكاثرها بهذا الشكل الفاضح إلى إثقال المنبر بالرسائل المشبوهة وحرفه عن رسالته.
على عكس (الفيس بوك) ليس بمقدور المدوّن الذي يريد التواؤم مع متطلبات (تويتر) الجدالية، تزوير شكل حضوره، كما لا يمكنه إختراع شخصية مقنّعة والدخول بها في حفلة صاخبة لا مكان فيها لمدمني المكياج، إذ يتطلب الأمر الكثير من التلقائية والعفوية وسرعة الرد، وعدم اللجوء إلى مرجعية (غوغل) وباقي محركات البحث. وهو ما يعنى أن يكون المدوّن مرئياً بالقدر الذي يحاول فيه أن يكون رائياً، حيث يعكس هذا المدار الواسع والمتحرك بلا هوادة مزاج المتورطين فيه، الذين صاروا يعرفون نتيجة تدافعهم في ذلك الحاضن الإلكتروني بـ(المتوترين). كما يفصح عن سحناتهم الإجتماعية، وانتماءاتهم الأيدلوجية، وما يمكن أن ينتج عن (تويتاتهم/تغريداتهم) البسيطة من تحول نوعي في الحياة.
كل ذلك يفسر كثرة السقطات لأغلب المدّونين، الذين ما زالوا ممسوسين ببقايا جاهلية، والكثير من التعصب، والإستعلاء على الآخرين، حيث يتلفظون من رواسب لاوعيهم ولاوعيهم بمفردات تشير إلى التمييز العرقي والمناطقي والفئوي والطائفي والمذهبي، كما تفصح عن فقر معلوماتي، واجتراء صريح على تزوير الحقائق، أو إشاعة الأكاذيب بدون التأكد منها، والإستعجال في تمرير معلومات رمادية، مجهولة المصدر ومعلومة النوايا أو العكس، الأمر الذي يؤدي إلى توليد حالة من الإحتقان في ردهات الموقع، ليس أقلها استفزاز الآخر، وإثارة النعرات والعصبيات، وبالتالي تضييع الحقيقة، وإعطاب فرصة ثمينة للتواصل الإنساني.
المعلومة معطى مهم لتشكيل الرأي، ولا شك أن (تويتر) كمخترع ومكتسب إنساني معولم يضج بالمعلومات المتقاطرة بشكل لحظي. إذ يشكل ذلك الكم الهائل من الأخبار والمعارف والآراء مصدراً مهماً للتعرُّف على مجريات العالم، بالقدر الذي يولّد فيه حالة من التشويش والحذر، خصوصاً أن مرتاديه يملكون عدته التقنية والإصطلاحية (هاش تاغ، تويت، ريتويت، فولو ان فولو، بلوك) بالإضافة إلى خفة شعورية طافحة، وزاد يومي من المطالعات النيئة، لكن أغلبهم لا يتكئون على رصيد معرفي، ولا خبرات جمالية، ولا رؤية تحليلية للأحداث، ولا قدرة حقيقية للتأكُّد من المعلومة وتحويلها إلى قيمة خبرية.
ويبدو أن الضجيج الذي صاحب المتغيرات الأخيرة في العالم العربي قد أكسب الموقع شهرة أكبر، الأمر الذي أغرى الجميع بالتورط فيه ومزاحمة جيل (النت). حيث يمكن ملاحظة وجود رجل الدين الذي يدخل (تويتر) ليثبت عصرانيته وقدرته على التواصل مع مكتسبات العولمة. كما يمكن الانتباه لإطلالات الوزير بين آونة وأخرى، الذي يتعاطاه ولو بمقاربة شكلية ليؤكد إيمانه بأهمية الإعلام الجديد، بالإضافة إلى طابور طويل من كتّاب المقالات، ومقدمي البرامج الحوارية، والفنانين، وأقطاب المجتمع المدني، ورموز الحياة السياسية العربية، الذين تنازلوا عن وقارهم وترّفعم، واقتربوا من القاعدة الشعبية. وكل ذلك التماس الصريح بالناس، إنما يحدث لاكتساب أكبر قدر من الشباب الذين أثبتوا قدرتهم على التغيير، وأكدوا إمكانية تحريك الساكن في الحياة والثقافة العربية.
هكذا تحول (تويتر) إلى ميدان حقيقي لمخاطبة الجمهور، الأمر الذي يحتم فحص شكل الحضور لتلك المتوالية من الرموز، إذ لا يبدو تدافعهم موفقاً ولا منطقياً حتى هذه اللحظة، بقدر ما تبدو محاولتهم مكشوفة لاحتلال الموقع، وانتهاز مكتسباته، فتوسيع القاعدة الجماهيرية، لا يكون بهذه الصورة الاستعراضية البائسة. حيث يبدو فارق اللياقة واضحاً بين العبارة الرشيقة الخاطفة لجيل (النت) الممتزجة عضوياً بإيقاع ونفحة اللحظة، مقارنة باللغة البيانية الوقورة الباردة لعجائز الورقي والمنبري والحزبي، الذين لا زالوا يتحركون بأوهام هالاتهم الروحية، ومكانتهم الثقافية، وشخصياتهم الإعتبارية.
عندما تدافع الشباب ناحية (تويتر) حولوه إلى مسرح للتراشق وفق قواعد الريبارتية Repartee التي تعني في الفنون الكلامية، حضور البديهة، وسرعة الرد، وبراعة القول، مع جرعة لاذعة من الإشارات والإستبطانات. وبالمقابل أحاله بعض رجال الدين إلى منصة لتصدير الفتاوى، وترديد عناوين خطب الجمعة، متبرئين -لفظياً- من تاريخهم المؤسساتي، ومن اصطفافهم المخزي ضد كل ما هو جماهيري. أما الوزراء والمتنفذين فقد جعلوا منه لوحة إعلانية لتعليق مراسيمهم وقراراتهم الرسمية، متخففين من أوزار بيروقراطيتهم، فيما تعامل مقدمو البرامج الحوارية معه كمحطة ترويجيه لذواتهم، واكتساب إكبر قدر من المتفرجين. وهكذا أراده كتّاب المقالات محلاً لتعزيز شهرتهم، واستقطاب شريحة إضافية من المطبلين. ولكن لم يكن حضور أولئك كلهم، حتى هذه اللحظة إلا مجرد إملاء فوقي لجمع تحتي، بدون قدرة ولا رغبة على التخاطب مع المدّونين، أو الإنسجام مع بساطة اللغة والمقاصد التي ينثرونها في الموقع الذي لا تسمح حروفه المائة وأربعين لخطبة وعظية ولا لمقال تحليلي ولا لبيان تفصيلي ولا لمرسوم رسمي.
ولأن (تويتر) يستجيب لما يُعرف بالتكنولوجيا المؤنسنة، التي تخفف من إغتراب الإنسان، وتوفر له بيئة إجتماعية، كما يتمثل في الهواتف الذكية والأجهزة المحمولة، تحول الموقع إلى مكب للهموم، فصار منصة دعاء، وساحة معركة لما يُسمي بالنضال الإلكتروني، وإلى فرصة للتشاوف على الآخرين وتمثيل دور النبلاء، وهو أمر متوقع، فالإنسان العربي المبتلى بقلة القراءة أو إنعدامها، والنخب الثقافية المعروفة بكثرة كلامها وتنظيراتها اللاواقعية، لا يمكنها التعاطي مع هذه اللحظة المعولمة إلا من خلال مرجعياتها المثقلة بالخيبات والتسويف والقدرية، لا من منطلق إشاعة وجهات نظر تغييرية، تشكل بدورها قوة مجتمعية، قادرة على التأثير في صانعي القرار.
إن الحضور في تويتر يتطلب دينامية في المقام الأول، وهو ما يعني ضرورة التخلي عن البزات العسكرية، والياقات، والتخفُّف من أردية القداسة، والتواضع أمام ما يمتلكه (الآخر) من نسبية الحقيقة، فهو منبر تفاعلي، وممراته لا تحتمل البطء، والإفراط في التأنق العباراتي، وتدبيج  الكلام، وبسط المقدمات، حتى مفردة (تويت) التي تشكل ركيزة الموقع المفهومية واللغوية، التي ينهض الموقع على تداعياتها تحيل إلى تغريدة صغيرة مكثّفة، أشبه ما تكون بالومضة، لا إلى خطبة مكتظة بالشروحات والأدلة والوصايا، واستدعاء تاريخ البطولات والخيبات للمتقاعدين عن التغيير والفائضين بالكلام.
ولا شك أنه بهذا المعنى ـأي موقع تويترـ يشكل مقترحاً معولماً للعودة إلى مستوى من الكلام الشفهي بكل طزاجته، عوضاً عن الكتابة بمعناها البنائي والتدليلي، أو هذا هو المعنى الثقافي للمشافهة المعلنة، حيث الكلام الحي المباشر المنشط للذات والذاكرة، المتولّد من النفس، والمولّد بدوره للمعاني الحية. وحيث التفاعل بين المدّونين بصفتهم متحاورين، بدون وسائط ولا أجندات، ولا فروقات إعتبارية. وحيث يعرف كل مدّون جمهوره ومحاوريه ومرمى كلماته وأفكاره، التي يرمي بها وترتد إليه، وفق شروط الإرسال والتلقي الحديثة. وحيث الكلام الذي يختزن طاقته في ذاته ويتجدد بتدحرجه وتناميه إثر كل مداخلة، فالمدوّن هو المؤلف لنصه، الذي يعيد بهذا التواصل المفتوح المجد للفنون الكلامية.
جريدة الرياض – الخميس 10 مارس 2011-03-09