طباعة ايميل
أفكار ناقدة للحداثة
ثمة اختلاف كبير بين نقد الحداثة من داخلها، والتهجم عليها من خارجها أو الإستخفاف برموزها، فالغرب الذي ساءل فلسفة الأنوار، فكر في الحداثة وعاشها كثورة، وقد امتلك من الجرأة والأدوات المنهجية ما يكفي لمراجعة أوهام وأسطورة حداثته، وتحطيم أصنامها، للخروج منها وبها إلى أفق المابعد، إتكاء على الإيجابي والفاعل من محتواها، بعد أن أقر بأن حداثته كمفهوم وحركة تمر بأزمة حقيقية، كانت أن تؤدي بالكائن إلى العدمية.
ولأنها إجتهاد بشري، تقوم في جانبها الأهم على الحضور في اللحظة، وأن الإنسان هو ما يصنعه، تمت مراجعة صرامة مفاهيمها الكلاسيكية، من حيث تمجيدها المطلق للعقل، بإدخال الذات الشخصية، أو إضفاء الذاتية على التفكير والحس الإنساني، والتقليل من الحاحية الرغبة في تدمير النظم القديمة، فقد تحشّد طابور طويل من مثقفي الإختلاف لمناقدة الحداثة ومساءلة تبشيراتها المعرفية والجمالية، دون ادعاء بالخروج منها أو عليها، ودون التهليل لموجة عداء بالمعنى الإرتكاسي، فالتشظي الحداثي المضاد كان ضرورة لإثارة جملة من الأسئلة الحرجة عن إمكانية بناء عالم ثقافي متماسك يكون منطلقا للتنمية الإنسانية.
هكذا بدأ التفكير في حداثة بدون ثورة، من أجل ابتكار جديد للحياة الإجتماعية، من خلال خطاب مناهض لتطرفات رؤيتها العقلانية للكون، أو ابتكار مفاهيم أقل وطأة، حيث دعوات العودة إلى الطبيعة كحنين للكينونة البشرية، والإعلاء من شأن المذهب التجريبي إيذانا بالتصادم مع سذاجة التصورات الروحانية للعالم، من خلال نظرة علمية ووضعية، خضعت هي الأخرى لمراجعة حتى على المستوى الإقتصادي، حيث تم تطوير المفهوم الرأسمالي، واعتماده كشكل إقتصادي للحداثة، من منطلقات عقلانية أيضا، فالحداثة لا ترتكز على مبدأ واحد، بل تتقاطع مع كافة منتجات النشاط الإنساني.
ومن هذا المنطلق بالتحديد، أريد تخفيفها من حس العقلنة، للتقليل من آثارها المؤدية إلى هدم العلاقات الإجتماعية، وذلك بالتأكيد على حداثة تعادلية تقود بشكل تلقائي إلى نظام اجتماعي عقلاني متجدد، لأن العقل بهذا المعنى الإبتكاري الفاعل، الذي لا يعترف بما هو مكتسب، هو الباعث على الحياة، وويفترض أن يكون الملبي للحاجات الفردية والاجتماعية، وإن تصادم مع الأعراف والمعتقدات التقليدية، رهانا على تحديث جذري لا تتولى مهمة إنجازه فئة أو طبقة اجتماعية، بقدر تكون النزعة العقلية هي دافعه وعصبه، تدميرا للوساطات اللاهوتية التي تمنع الفرد من التفكير الحر، خصوصا عند النظر إلى تولدها داخل أنظمة مثقلة بالتصورات الإيمانية.
إذا، بدأت الحداثة في البحث عن نص يتواءم مع الديمقراطية، لزعزعة كل ما بات تقليديا، من خلال نزعة شكوكية منذورة لإختبار تكاملية الصورة الحداثية، في أبعادها المادية والرقابية على جميع جوانب الحياة الإجتماعية، وبتفعيل الفكر التاريخي، الذي أسس لفكرة انعطافية مفادها أن الإنسان هو الصانع لتاريخه الشخصي، الذي يتحرك بدوره داخل تاريخ عام بموجب حالة من التواؤم الدائم بين التمزق والتكامل، للوصول إلى إمكانية التعايش الخلاق بين العقل والذات في الكائن الإنساني، ما دام الإنسان هو المسؤول عن تحديد منسوب القوة التحريرية لحداثته.
نزعات التجديد تلك إذا، لا تعني أن الحداثة تسير وفق نظام ناجز، بل كحركة هدم خلاقة، يكمن جوهرها في الوعي، بما هو بناء اجتماعي على درجة من الإرتباط باللغة وبالدور الاجتماعي، الذي يتخلى بموجبه الكائن عن أوهام المثل الأعلى، وسطوة الأنا العليا، إنتصارا للحياة، وعليه تم التأكيد على أن الوعي ليس جوهر الحياة النفسية تماما، ومن ذات المنطلق تم تدمير أسطورة اليقينيات الكلاسيكية للحداثة، أي بمحاربة التكيف الإجتماعي والإصلاح الأخلاقي، حيث تم التركيز في وقت لاحق على نقد مبرمج وكثيف لما عرف بفلسفة الذات، باقتراح ذات شخصية مبنية عبر العلاقة بالكائنات البشرية.
كل هذا يفسر استمرار حيوية الآخر الغربي، والتشظي المابعد حداثي، وبروز سطوة " العولمة " كعنوان لذلك التفوق، فالتناقضات الثقافية للحداثة كانت محل نقد المثقفين، الذين أرادوا إيقاف سيادة الأداتية، فيما تبدى كشكل من أشكال الحنين الثقافي إلى الكائن، دفاعا عن الحياة ضد عبادة التقنية، من خلال الفن كمقترح لاكتشاف الذات، أو تذويبها في الكل، أو حتى تدميرها، لأنها من صنع آليات السلطة، او هذا ما أريد البرهنة عليه، من خلال إعادة الثقة بالعقل مرة أخرى، فإدخال فكرة الذات في سياق الحداثة مرة أخرى ومن منظور ثوري جديد، لا يمكن إلا عبر نقد اجتماعي خالص، وإنعاش الأفكار الناقدة للحداثة.
هذا هو جوهر الفكر الحداثي الناقد، سواء في نسخته الليبرالية أو الماركسية، أي التأكيد على المزاوجة التطابقية بين تحرر الفرد والتقدم التاريخي، فالحداثة في طورها التصحيحي أو التطويري، وإن أرادت تخفيف حدة التعارض بين الحياة الخاصة والحياة العامة، إلا أنها لا تنطق إلا باسم العقل والتاريخ، مهما قيل عن عقلانية معتدلة، ومهما كتب عن نقد العقل الخالص، لأن منسوب عقلانية حياة انسان يمكن أن تتم معايرته حسبما تكون هذه الحياة الفردية منسجمة قليلا أو كثيرا مع تلك الكلية.
|